Site icon Lebanotrend

الدولار بين القوة والابتزاز: كيف ينهار الإحتكار المالي الأميركي – بسام الترك

بعد الحرب العالمية الثانية، كان العالم منهكًا اقتصاديًا، وكانت أوروبا خارجة من حرب أنهكتها ماليًا وصناعيا. فقدت العملات الأوروبية والآسيوية قيمتها، وكان التضخّم يلتهم المدخرات، وكانت الدول بحاجة إلى استقرار نقدي لإعادة بناء نفسها.

في هذه اللحظة التاريخية، برزت الولايات المتحدة كالقوة الاقتصادية الوحيدة القادرة على الصمود، بقدرات إنتاجية هائلة واحتياطي ذهب ضخم.

في ذلك السياق، أصبح الدولار الملجأ، ليس لأنه الأقوى فحسب، بل لأنه العملة الوحيدة القادرة على منح الثقة الدولية. ومن خلال اتفاقية بريتون وودز عام 1944، رُبط الدولار بالذهب، فيما رُبطت بقية العملات بالدولار، فصار للولايات المتحدة الدور الحاكم في النظام المالي العالمي بطريقة “ناعمة” ولكن فعّالة.

مع مرور الوقت، أصبحت معظم دول العالم مضطرة لاستخدام الدولار في استيرادها، وتبادلها التجاري، وشراء الطاقة والنفط، وإجراء التحويلات الدولية. لم يعد الدولار مجرد ورقة نقدية، بل صار مفتاح الدخول إلى الاقتصاد العالمي.

بدأت المشكلة عندما قررت الولايات المتحدة استغلال هذا الوضع الاستثنائي، وتحويل الدولار من عملة محايدة إلى أداة نفوذ.
فرضت عقوبات على الدول غير الموالية، وجمّدت أصول وودائع حكومات، واستخدمت شبكة التحويل العالمية SWIFT كأداة للضغط، وأصبحت المعاملات المالية وسيلة للعقاب أو المكافأة.

في هذه اللحظة، تغيّر ميزان الثقة، إذ أدركت الدول أن الولايات المتحدة قادرة بضغطة زر على عزلها ماليًا، خنق تجارتها، وتجميد أموال شعوبها، مما دفع حتى الدول التي تربطها علاقات جيدة مع واشنطن إلى التساؤل:
“كيف نحمي سيادتنا إذا صار الدولار بحد ذاته تهديدًا يمكن استخدامه ضدنا؟”

لم يعد الدولار “عملة آمنة للجميع”، بل صار “عملة آمنة للبعض فقط”، فرفضت دول كبرى مثل الصين وروسيا والهند أن تبقى رهينة لعملة تستغلها دولة واحدة لفرض إرادتها. ومن هنا برزت مجموعة BRICS كمشروع دولي لكسر الاحتكار المالي الأميركي.
(البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا… ومع الوقت انضمت دول إضافية).

عملت المجموعة على محورين استراتيجيين رئيسيين:
1. تقليص الاعتماد على الدولار
بدأت الدول الأعضاء تتاجر فيما بينها باستخدام عملاتها الوطنية، وحاليًا يتم نحو 60% من تجارتها البينية خارج الدولار.
هذا الرقم كبير جدًا، إذ تمثل هذه الدول نحو ثلث الناتج العالمي.
2. بناء مؤسسات مالية بديلة
مثل بنك التنمية الجديد NDB الذي يقدم القروض والتمويلات دون شروط البنك الدولي وصندوق النقد، فصار هناك بديل حقيقي للتمويل الغربي – الأميركي لأول مرة.
3. خلق عملة موحدة جديدة

ومن هنا أتت المقارنة بين قمة قازان وقمة بريتون وودز.
ماذا يعني ذلك عمليًا؟
يعني أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على طباعة دولارات بلا حدود وشراء منتجات العالم دون تكلفة سياسية، ويعني تدني حجم احطياط دول العالم بالعملة الأميركية.
وهكذا، بدأ يظهر توازن مالي جديد، يتجلى في ظهور أنظمة دفع مستقلة عن SWIFT، واحتياطيات دولية متنوعة من الذهب واليوان والعملات المحلية، ونمو حجم التعاون بين دول الجنوب، وتراجع بطيء ولكن مؤكد للدور الاحتكاري للدولار.

نحن اليوم في عالم متعدد الأقطاب. هذا لا يعني انهيار الولايات المتحدة، ولكن احتكارها للسلطة المالية بدأ يتلاشى، وأصبح واضحًا أن تحويل الدولار من “أداة ثقة” إلى “أداة ضغط” كان خطأ استراتيجيًا جسيمًا.

العالم يتغير بسرعة، ليس فقط اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، بل تكنولوجيًا بشكل خاص. ونحن الآن في مرحلة إعادة التموضع المالي والجغرافي والسياسي، والتنافس على الريادة في الذكاء الاصطناعي، الذي سيؤثر في البشرية ويحكم العالم أسرع مما يتوقع البعض.
هل ننتقل سلمًيا لترى البشرية المستقبل، أم بالحرب لينجو المقررون فقط؟
#فكروا_فيا