Site icon Lebanotrend

التخطيط الاستراتيجي وعقيدة السياسة الخارجية الجديدة: ما هي النتائج؟

السفير الروسي لدى لبنان الكساندر روداكوف –
على مدى السنوات القليلة الماضية، حدثت تغييرات جذرية في النظام العالمي بكامله. إنّ بروز الأزمات واحدة تلوَ الأخرى تحفّز تطور النظام العالمي في اتجاه التعددية القطبية. إنّها تجبر اللاعبين على الساحة الدولية على التكيّف مع المواقف الجديدة التي تتوافق مع الحقائق الموضوعية. إتخذْ قرارات استراتيجية صعبة وأعِدْ التفكير في مكانك على رقعة الشطرنج العالمية.
 
احتلت روسيا تاريخياً مكانتها على الخريطة السياسية للعالم في اعتبارها أحد مراكز القوة السياسية والاقتصادية. ومَثَلُها كمَثَل جميع الجهات الفاعلة الأخرى التي تشكّل النظام في العلاقات الدولية، فهي مضطرة إلى إعادة تقييم مسارها الاستراتيجي دورياً. يمكن أن تكون أسباب مفهوم هذه التحوّلات مختلفة تمامًا: تغيير في الحاجات الداخلية، أو إعادة التفكير في القيم الأيديولوجية، أو تغيير جذري في الوضع على الدائرة الخارجية.
 
في روسيا، يتمّ تحديد مثل هذه التقييمات من ناحية مفهوم الوثائق الإستراتيجية الأكثر أهمية – مفهوم السياسة الخارجية (الذي تمّ تحديثه، في المناسبة، منذ أكثر من عام بقليل)، واستراتيجية الأمن القومي (التي ستبلغ الثلاث سنوات قريبًا). في الوقت نفسه، تقترب الذكرى السنوية العاشرة للوثيقة الروسية «المتفوقة» والضخمة للأمن القومي والاستقرار ـ القانون الفيدرالي «للتخطيط الاستراتيجي».
 
أعترف أنّ مثل هذه الوثائق المهمّة للديبلوماسية الروسية بالكاد معروفة لدى عامة الناس في روسيا، فكيف إذاً في لبنان؟. ومع ذلك، فإنّ فهْم مكانة موسكو ودورها ومسارها على المدى المتوسط والطويل في الشؤون الدولية، قد يظل مفيدًا للقراء اللبنانيين. هذه ليست مجرد فرصة لاكتساب فهم أكثر اكتمالاً لأهداف روسيا على الساحة الدولية، ولكنها أيضاً فرصة لفهم أفضل لطريقة رؤية موسكو لدورها في العمليات العالمية.
 
فما الجديد إذاً في سياستنا الخارجية وتفكيرنا الاستراتيجي في المرحلة الحالية؟
ـ أولاً، بفضل إعادة التفكير العميق في الخبرة المتراكمة والنظر الموضوعي للوضع الحالي في العالم، تمّت مراجعة التسلسل الهرمي الجغرافي لشركاء روسيا الخارجيين. وفي المقدّمة تأتي دول الاتحاد السوفياتي السابق، وآسيا، والعالم الإسلامي، وإفريقيا، وأميركا اللاتينية (لبنان، بطبيعة الحال، في الفئة «الرائدة»). وبعبارة أخرى، فإنّ ما يُسمّى «اللا غرب» ممثل هنا. وعلى العكس من ذلك، أصبحت أوروبا والعالم الأنجلوسكسوني في المرتبة الأخيرة.
 
هذا التدرّج يعود إلى أنّ الغرب في الظروف الحالية لا يمكن الاعتماد عليه سياسياً، ولا شريكاً اقتصادياً لروسيا. إنّ حجر الزاوية في سياسة النخب الحاكمة هناك يهدف إلى إلحاق أكبر مقدار ممكن من الضرر السياسي والمالي والاقتصادي والتكنولوجي بنا. هدفنا هو تقليل هذا الضرر وإيقافه.
 
ـ ثانياً، ولأول مرّة في عقيدة السياسة الخارجية الروسية (وفي الواقع في الممارسة العالمية من هذا النوع)، تعلن روسيا صراحةً نفسها دولة حضارة مستقلة. فهي تتخلّى عن عقود من الواقعية والبراغماتية في «السياسة الكبرى»، وتَقبلُ أخيرًا مساراً قوياً سياديًا
متممًا للنهج الحضاري.
 
بالنسبة الى القارئ الأقل تمرّسًا، هناك سؤال مبرّر تماماً: ماذا يعني هذا على الإطلاق؟ دعني أشرح. هذا تحوّل ثوري في النموذج السياسي الفلسفي. قبل عشر سنوات فقط، كنا نرى أنفسنا جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الأوروبية، وكنا نأمل أن نندمج في «مساحة اقتصادية وإنسانية واحدة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ». هذه الأوهام المفرطة في التفاؤل أصبحت شيئاً من الماضي. والآن، بعد أن ذُقنا التجربة المريرة المتمثلة في الخيانة المستمرة وخيبة الأمل الصارخة نتيجة التفاعل مع الغرب، توصلنا إلى النتيجة الحقيقية الوحيدة: أننا حضارة منفصلة، معزولة عن أوروبا وآسيا. وحدة مستقلة لتاريخ العالم.
 
في إطار هذا النموذج، لم تعد روسيا تنوي محاولة الاندماج في أي أشكال مشكوك فيها من التفاعل بين الدول. وخصوصاً تلك التي لا تؤدي إلّا إلى التضخيم الدنيء لكراهية روسيا واعتبار موسكو «مركز الشرّ العالمي».
 
ـ ثالثاً، أصبح «العمود الفقري» للسياسة الخارجية للدولة في الظروف الحالية، موضوعاً على الورق بنحو واضح لا لبس فيه. هناك اتجاهان رئيسيان للسياسة الخارجية، وهما «ثنائيان». فمن ناحية، نحن في حالة نزاع هجين متصاعد مع «الغرب الجماعي» (والأنجلوسكسونيين على رأس هذا المصطلح الجماعي). ومن ناحية أخرى، فإننا نعمل على تعزيز العلاقات الشاملة مع الغالبية العالمية (إقرأ: مع جميع الدول المحايدة والصديقة تجاهنا) بوتيرة متسارعة.
 
لا يسعني إلّا أن أغتنم هذه الفرصة لرسم تشبيه ملون: ينظر النسر ذو الرأسين – شعار روسيا – في اتجاهين – تمامًا كما تبني سياستنا الخارجية الحديثة نظامًا من الإحداثيات المزدوجة. يشير بنحو مجازي إلى من هو الصديق ومن هو العدو.
خلال هذا الوقت، أظهر كل من التخطيط الاستراتيجي المحلي ومفهوم السياسة الخارجية استقرارهما ودقتهما. دعونا ننتبه إلى الحقائق.
 
تسير التنمية الاجتماعية والاقتصادية في روسيا الاتحادية بوتيرة ثابتة. وعلى عكس «الأوهام الرطبة» لخصومنا، فإنّ آلاف العقوبات المختلفة لم توقف نمو الاقتصاد الروسي. بل على العكس من ذلك، فقد مكّنت من إعادة التركيز على الموارد الداخلية وتحسين صحة الاقتصاد الوطني، وتحريره من «التبعيات» القديمة.
 
ونتيجة للتكيّف مع المرحلة، فإنّ توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي الروسي يتمّ تنقيحها بنحو منتظم نحو الأعلى، وهو ما يتجاوز توقعات خبراء الاقتصاد. علاوة على ذلك، تعتمد الديناميكيات الإيجابية على الموارد الداخلية مما يؤدي إلى تسريع الطلب الاستهلاكي والاستثماري.
وبالمثل، تكيّفت التجارة الخارجية مع الحقائق الجديدة. لقد أصبح الاعتماد على التجارة مع الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية بسبب القصور الذاتي شيئاً من الماضي. أما الآن، فقد أصبح النمو بمعدل يتجاوز 10% في حجم التجارة مع دول الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا وهو المعيار الجديد.
 
 
كذلك فشلت الفكرة المهووسة والوهمية لأعدائنا حول انفصال روسيا عن المجمع العلمي والتكنولوجي العالمي. فالصناعة المحلية وصلت إلى مستويات جديدة من الإنتاج. علاوة على ذلك، نحن لا نتحدث فقط عن المجمع الصناعي العسكري، الذي أجبرت في المناسبة، ديناميكياته القوية أخيرًا، وزير خارجية أوكرانيا كوليبا على الاعتراف بأنّه في الغرب، في المجمع الصناعي العسكري، وعلى النقيض من روسيا، «ليس كل شيء على ما يرام».
 
ومن حيث التطوير الاستراتيجي، فإنّ الوضع جيد جدًا. أما بالنسبة الى مسار سياستنا الخارجية المُحدَث، فهو يظهر أيضًا النجاح.
 
لنبدأ بحقيقة أنّ روسيا لم تكن معزولة. فموسكو تعمل بنشاط على تطوير التعاون مع شركاء ذوي عقلية بنّاءة، والذين يفوق عددهم مرات عدة أولئك الذين يحاولون بكل قوتهم تشويه صورتنا. ومن المؤشرات الواضحة على ذلك توسيع عضوية مجموعة «البريكس» ومنظمة «شنغهاي للتعاون». بالإضافة إلى ذلك، يقوم الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU) بتوسيع قائمة الدول التي تنتقل معها العلاقات الاقتصادية إلى مستوى أعمق وأكثر ثقة.
 
دائمًا أجرينا الاتصالات مع الشركاء المهتمين وستظل كذلك. ولا يتعلق الأمر بالحوار السياسي والاقتصادي فحسب: بل إنّ التفاعل على المسارات البرلمانية والثقافية والإنسانية والتعليمية والعلمية والتكنولوجية من المناطق «الصديقة» يقوى أمام أعيننا. عموماً، بغض النظر عن مدى رغبة المنتقدين، فإننا لسنا وحدنا على الإطلاق.
تسأل كيف يرتبط كل هذا بلبنان؟
 
تتكيّف السياسة الروسية ـ الخارجية والداخلية ـ مع أي تحدّيات بإسم المهمّة المقدّسة المتمثلة في حماية سيادة الوطن والحفاظ على رفاهية شعبه. في بعض الأحيان يتعيّن عليك دفع ثمن باهظ جداً مقابل ذلك، وإعادة النظر جذرياً في الأولويات والشراكات. ومع ذلك، فإنّ هذا الدفع يستحق بلا شك سلامة الدولة واستمرارية سيادتها الوطنية.
 
أما بالنسبة الى لبنان فإنّه يواجه، في الماضي والحاضر، كثيراً من التحدّيات الصعبة وجهاً لوجه. منها الأعمال العدوانية لإسرائيل، وأزمة سلطة الدولة، والانهيار المالي والاقتصادي، مع ثقل عبء اللاجئين السوريين، الذين يعارض الأوروبيون والغربيون بشدّة عودتهم إلى الجمهورية العربية السورية! وفي المناسبة، أشك في أنّ «الإعانات المقدّمة من بروكسل» قد تعمل بأي حال من الحالات على زحزحة هذه المشكلة بمقدار كبير من «النقطة الميتة».
 
ويبدو لي أنّ حل هذه المشكلات المعقّدة لا يكاد يكون ممكناً إلّا إذا تمكن الشركاء اللبنانيون من التوحّد والإجماع على صياغة رؤية واضحة لمستقبل «أرض الأرز». كذلك تحديد أولويات التنمية وتحديد الأهداف المرجوة للشعب اللبناني والدولة ككل بشكل واضح.
 
عاجلاً أم آجلاً، لا بدّ من اتخاذ هذا الخيار الاستراتيجي، مهما كان. وذلك من أجل الحفاظ على خصوصية الدولة ومنع حرب أهلية في لبنان. وهذا الخيار يجب أن يتخذه اللبنانيون أنفسهم، وليس أي شخص آخر.
Concordia parvae res crescunt, discordia maximae dilabuntur.