الأخبار: رلى إبراهيم-
قبل انقضاء عام على سجنه الفاخر، أخلت الهيئة الاتهامية سبيل رياض سلامة بكفالة «هزيلة»، من دون محاسبة شاملة على اختلاس الأموال أو استردادها.
قبيل أيام من إطفائه شمعة عامه الأول في السجن، وافقت الهيئة الاتهامية في بيروت برئاسة القاضي نسيب إيليا على إخلاء سبيل حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، لقاء كفالة مالية قدرها 20 مليون دولار و5 مليارات ليرة لبنانية، إضافة إلى منعه من السفر لمدة عام.
هكذا، بكل بساطة، وفي حال تمييز القرار، يخرج سلامة بكفالة لا تُعادل 1% من أموال المودعين والأموال العامة التي بُدّدت خلال عهده الطويل على رأس المصرف المركزي، ليعود إلى منزله على وقع الطبل والزمر، وقد يحل قريباً جداً ضيفاً على الشاشات التي دائماً ما موّلها، ليروي قصة مظلوميته واعتقاله «السياسي».
وليس من قبيل المصادفة أن يسارع القاضي إيليا إلى طلب الإخلاء قبل أن يتسلم القاضي كمال نصار رئاسة الهيئة الاتهامية في 15 أيلول، ومن دون صدور أي قرار ظني في أي ملف أوقف الحاكم السابق فيه.
وكان قاضي التحقيق الأول في بيروت، بلال حلاوي، قد أصدر منذ أربعة أشهر قراراً ظنياً بحق سلامة، اعتبر فيه أفعاله من نوع الجنايات، لما أقدم عليه من «سرقة وهدر الأموال العامة، والتزوير والاستعمال المزور، والاختلاس والإثراء غير المشروع»، بعد التحقيق معه في اختلاس أموال عامة عبارة عن شيكين ماليين بقيمة 43 مليون دولار من حساب الاستشارات في المصرف المركزي، حُوّلت إلى حسابي المحاميين ميكي تويني ومروان عيسى الخوري، اللذين حولا بدورهما هذه المبالغ إلى حساب سلامة الخاص، من دون توقيفهما.
وبعد انتهاء حلاوي من التحقيق، انتقل الملف إلى الهيئة الاتهامية، التي كان يفترض أن تصدر قراراً اتهامياً وتحوّل سلامة إلى محكمة الجنائيات ليُحاكم أمامها، إلا أنها أبقت عليه موقوفاً احتياطياً من دون محاكمة.
وعندما وصلت مدة توقيفه بحسب المادة 108 من أصول المحاكمات الجزائية إلى حدها الأقصى، وافق إيليا على إخلاء سبيله، متعمداً رفع قيمة الكفالة المالية لتصوير الأمر على أنه إنجاز قضائي، ليتغنّى البعض بـ«الكفالة الأكبر في تاريخ القضاء اللبناني».
إلا أن هؤلاء أغفلوا أن القضاء لم يفرض على سلامة حتى الآن إيفاء قيمة الشيكين الذين أودعهما في حسابه الخاص، أي 43 مليون دولار، ولا احتسب تحويلات شركة «فوري» البالغة 330 مليون دولار، أو المليارات الثمانية التي قدمها لشركة «أوبتيموم» – وهي شركة بديلة من «فوري» – تحت بند «عمولات»، أو القروض المالية التي وهبها للمصارف غداة الأزمة الاقتصادية في تشرين 2019، وغيرها الكثير من الأموال العامة التي لم يُحاسب عنها بعد.
20 مليون دولار و5 مليارات ليرة لا تُعادل 1% من الودائع والأموال العامة التي بُدّدت خلال عهده
ختمُ ملف سلامة بهذه الأريحية كان متوقعاً، وظهرت أولى بوادره منذ توقيفه، حيث تم توفير طابق 5 نجوم له في السجن فور اعتقاله، ثم حُجز له جناح خاص في مستشفى بحنس بسبب «تدهور وضعه الصحي»، ليبقى هناك أشهراً يستقبل ويودع «محبيه» متى شاء، قبل أن تُعيّن لجنة طبية أوصت بضرورة إخلاء سبيله.
طوال هذه الفترة لم يتأثر نمط عيش الحاكم عما كان عليه قبل توقيفه، مع الحرص على تأمين كل مظاهر البذخ من الطعام الفاخر إلى السيغار والهاتف الخاص والزيارات اليومية، وكل ذلك تحت غطاء قضائي وسياسي شامل. وها هو يخرج في عهد «الإصلاح القضائي»، ومع تسلّم «التغييريين» و«الإصلاحيين» رئاستي الجمهورية والحكومة ووزارة العدل.
الحجة القانونية لإطلاق سلامة هي انقضاء مدة توقيفه، غير أن القاضي كان يمكن أن يأمر باستمرار توقيفه بجناية «الخطر الشامل» لتورطه في «تشكيل عصابة أشرار والتلاعب بأمن الدولة الاقتصادي»، ما أدى إلى أزمة مالية طاحنة وفقدان قيمة الليرة اللبنانية، إضافة إلى سرقة أموال المودعين وتبديد الاحتياطي في المصرف المركزي.
إلا أن الطبقة السياسية على ما يبدو قررت تجهيل السارق بدلاً من استدعاء جميع شركاء سلامة لمحاسبتهم على واحد من أكبر المخططات الاحتيالية في التاريخ. والسؤال البديهي هنا هو: كيف يمكن المضي قدماً في الإصلاحات المالية والقوانين، بما فيها التعويض على المودعين وتوزيع الخسائر، من دون استعادة الأموال المسروقة ومن دون أي موقوف في السجون اللبنانية؟
والأكثر إثارة للسخرية أن القضاء اللبناني لم يعمد إلى التوسع في ملف سلامة ليشمل جميع الاختلاسات وعمليات تبييض الأموال، وكل من تسري عليهم تهمة الإثراء غير المشروع، رغم أن هناك تحقيقات لبنانية واضحة أدت إلى حجز ممتلكاته، وتحقيقات أوروبية وفرنسية خاصة حول اختلاسه لأكثر من 300 مليون دولار، مرفقة بمذكرة توقيف دولية معممة على الإنتربول. وبالتالي، فإن سلامة غير قادر على السفر أساساً، سواء بقرار من القاضي إيليا أو من دونه!
رغم ذلك، فإن هذه «الامتيازات» لم تعجب وكلاء سلامة المعارضين لدفع كفالة مرتفعة بهذا الشكل، معربين عن «ثقتهم» بالقضاء وبأن «لا يصح إلا الصحيح».