Site icon Lebanotrend

اقتراع المغتربين: بين المصلحة الوطنية ومزايدات “السياديين” – جان بو شعيا

بينما يستعد لبنان لاستحقاق انتخابي جديد، تعود إلى الواجهة أزمة قديمة-جديدة: حقّ المغتربين في التصويت. لكن هذه المرة، الأزمة لا تتمحور حول المبدأ، بل حول كيفية تطبيقه. وبينما يطرح التيار الوطني الحر رؤية دستورية متقدّمة تنطلق من روح القانون وتراعي مصلحة الوطن، تردّ قوى تدّعي “السيادة” بمزيد من النكَد السياسي والتعطيل المقنّع، فيما يحصّن رئيس مجلس النواب نبيه بري القانون وكأنّه “نصّ مقدّس”، ويتنصّل من تعديله، حتى لو كان التعديل لتطبيق ما لم يُطبَّق أصلاً.
في عام 2017، أُقرّ قانون انتخابي جديد تضمّن مادّة واضحة تنصّ على استحداث دائرة انتخابية (رقم 16) لتمثيل المغتربين اللبنانيين عبر 6 نواب يُنتخَبون مباشرة من الاغتراب. إلا أنّ هذا البند بقي معلّق التنفيذ بذريعة “التحضير الإداري”، في وقت كان من الممكن تطبيقه تقنيًا منذ انتخابات 2018.
اليوم، وبعد مضيّ أكثر من 6 سنوات، يطرح التيار الوطني الحر، عبر رئيسه النائب جبران باسيل، رؤية متوازنة تقوم على تطبيق الدائرة 16، كما نصّ القانون، مع منح المغترب خيار التصويت في دائرته الأصلية في لبنان إن شاء ذلك، تحقيقًا للعدالة التمثيلية وحفاظًا على وحدة الجسم الإنتخابي الوطني.
غير أنّ هذا الطرح، الذي أُعلن بوضوح في خطاب باسيل في 13 تشرين الأول، جوبه برفض من قوى سياسية عدّة، أبرزها “القوات اللبنانية” و”الحزب التقدمي الاشتراكي”، بحجّة أنّ “الناخب يجب أن يصوّت في دائرته الأساسية”، ما يشكّل انقلابًا واضحًا على جوهر القانون وتراجعًا عن ما كانوا يتغنّون به سابقًا.
من جهته، لم يكن موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري أقلّ صلابة في الرفض، إذ اعتبر أنّ القانون كما هو “بمثابة الإنجيل والقرآن”، رافضًا أيّ تعديل أو نقاش في مادته المتعلقة بالدائرة 16. المفارقة أنّ هذا الرفض يترافق مع استجداء بعض القوى السياسية دعم رئيس الجمهورية لحثّ الحكومة على “تأجيل” أو “تعديل” المادّة عبر مسارات تنفيذية لا تمرّ بالبرلمان، في مخالفة واضحة لفصل السلطات.
هذا التناقض في المواقف يثير تساؤلات جدّية حول خلفية هذا الرفض: هل الهدف فعلاً الحفاظ على القانون كما هو؟ أم أن ّهناك خشية من نتائج تصويت المغتربين في حال تمتّعوا بتمثيل مستقلّ فعلي في دائرة انتخابية خاصّة، لا تخضع لاصطفافات الداخل؟
أكثر ما يكشف زيف بعض الطروحات هو ما صدر عن رئيس حزب “القوات اللبنانية”، سمير جعجع، الذي تهكّم مؤخّرًا على قانون 2017، منتقدًا صيغته وتعقيداته، وهو الذي كان يفاخر في وقت سابق بأنّه “قانون جورج عدوان”، وأنّه يعبّر عن تطوّر ديمقراطي في النظام السياسي.
هذا التناقض الصارخ يطرح علامات استفهام حول نوايا هذه القوى فعليًا من التعامل مع القانون: فهل المشكلة في القانون نفسه، أم في طريقة تصويت المغتربين؟ وهل يُقبل بمنطق ديمقراطي أن يطالب فريق سياسي بتطبيق القانون عندما يناسبه، ويرفضه ويسخر منه حين لا يخدم مصالحه الانتخابية؟
في هذا المشهد، يبدو التيار الوطني الحر الوحيد الذي يتعامل مع القانون الإنتخابي على أساس المبدأ لا المصلحة. فهو يطالب بتطبيق الدائرة 16 كما أُقرّت، ويعرض بالموازاة حلًا متوازنًا لا يستثني مَن يريد التصويت في لبنان، ليحفظ حقّ جميع اللبنانيين، سواء في الداخل أو في الخارج.
في المقابل، تصرّ القوى الأخرى على الالتفاف على هذا الحقّ، لا لسبب سوى أنّ خريطة التصويت في الاغتراب تغيّرت، ولم تعد تصبّ لصالحها كما كانت تتوقّع. وهذا ما يدفعها إلى خوض معركة جديدة بوجه القانون ذاته الذي كانت تتبجّح به، متناسية أنّ احترام القوانين لا يكون انتقائيًا، بل التزامًا وطنيًا.

اقتراع المغتربين لم يعد مجرّد عنوان تقني أو تفصيل إجرائي، بل بات امتحانًا فعليًا لمدى التزام القوى السياسية بالقوانين التي صاغتها، ومدى احترامها لحقوق اللبنانيين. وبينما يتمسّك التيار الوطني الحر بموقف دستوري شفاف، تفضّل قوى “السيادة” أن تدوس القانون، وأن تسخر منه، فقط لأنّ من يطالب بتطبيقه هو خصمها السياسي.
في النهاية، وحدها المصلحة الوطنية يجب أن تكون المعيار، لا الحسابات الظرفية ولا التوازنات المصطنعة، وإلّا فإنّ ما نراه ليس سوى استمرارٍ لأزمة النظام لا خلاصها.